ماليخوليا 3 –
مصطفي الملواني
يقفُ شامخاً على
قُضبانِ القِطارِ لا يهتزُ او يتردد , اصواتُ اجراس تعلو في سماءَ المنطقةِ
المحيطةِ بالمحطةِ تُعلِنُ عَنْ قدومِ القطارين بعدَ دقائق , ينظرُ هو الى مكانِ
قدوم القطار مقبلا عليهُ , وكأنَّهُ ينتظرُهُ ليقفَ في طريقِه , ولكن عيناهُ كانَتْ
تقولُ انهُ يودُ انْ يحطمُهُ فورَ وصوله , ولم يفهمْ اي ممن ينتظرون القطارَ سبب
وقوف هذا الشابُ ؛ يتعجبُ المارةُ ويقف بعضهم ليرى لماذا هو شَاحبٌ بنظرِه لا
يتزحزحَ عن مكانِه , الناسُ يراقبونه في الخفى فيجذبَ انتباههم صوتَ هذا غريبُ الاطوارِ
..
" هيا تقدم
, قِفْ بجانبي لنموتَ سويا , الم تتحدانِ وقلت انني لا أملك القوة التي يجب ان
تكونَ لانتحر , ها أنا ذا , لن اتزحزحَ ولكن كن انتَ قويا واقدم معي على افضل خطوة
بحياتنا , هل لديك شيءَ لتخسرَهُ ؟! هل تخشي فقدانَ حياتك ؟! هل سيبكي عليك احدهم
فتخشى فقدانَهُ ؟ ام انك اضعف من ان تقدمَ علي شيء كهذا ؟ "
انهي كلامه وضحكَ
ضحكاتِه الهستيرية المعتادة , سمع صوتَ صافرة تعلن عن قدوم القطار , ولكن هذه
المرة هو صوت صادر عن القطار نفسه , فكان اللقاء قد اقترب كثيرا , رفع يديه وكأنه
ينتظر قدوم حبيبته وهي مقبلة عليه بشغف واشتياق لتحتضنه , وكأن هو كذا , "ألن
تأتي ؟ سَتندم كثيرا " قالها مبتسما لصديقه , وصار صوت الصافرة يقترب اكثر
فاكثر , على المنعطفِ البعيدِ ظهرَ ضوء خافت , وصار يقترب الضوء صاحبا القطار
وراءَهُ ..
" الحاجِزُ ليسَ ضعفاً , ليس املاً
ولا حتى خشية جهنم , الحاجز هو انه لا يوجد حاجز يمنعُكَ مِن الانتحار , فامثالنا
ياصديقي لا يمكنهم ان يقدموا على شيء بدون التضحية , وعندما تفكر بالانتحار لا
يوجد امامكَ حاجزَ لتكسرَهُ , لا خوف ولا حب ولا أمل , فيُصبِحُ الحاجِز هو عدم
وجود حواجز , فتبقي
كَمَا أنتَ .. "
قالها وابتعد عن طريق القطار في لحظة
حاسمة , ثم اضاف :
"
.. فتبقي كمَا أنتَ , ياصديقي , على قَيدِ الحياةِ , وتكمل ألمك "..
مر القطار من
امامهما , تهتز الارض من تحتهما من شدة سرعة القطار ..
" عدم وجود
حواجز , هو حاجزُ بذاتِه , فلماذا لَمْ تكسرْهُ وتكملُ الباقي مِن عمركَ تحت عجلات
القطار ؟ هناك شيء تخشاهُ ولكن تحب ان تخدعَ نفسُكَ , ولكنك لا تستطيع خداعي يا
صديقي , فانا اعلم مما في نفسك اكثر مما تعلمه انتَ "
استعذب آذانهما صَوتَ
القطارَ على الجانبِ الآخرِ , يعلن عن قدومِه , نظرا لبعضهما نظراتُ لَمْ تحتاجْ
لتفكيرَ حتى يفهمْاها , يبتسمان ساخران , تحرك احدهما مسرعاً نحو القضبان على
الجانبِ الآخرِ مِن طريقِ القطار , وقف معاكسا للمرة الأولى , ووقف صديقه بجانبه ,
يقفان شَامِخانْ لا يهتزا او يترددا , ينظران إلى مكانِ قدوم القطار مقبلانِ عليهُ
, وكأنَّهُما ينتظرُانه ليقفَا في طريقِه , ولكن عيناهُما كانَتْ تقولُ انهُما
يودُوا انْ يحطمُاه فورَ وصوله , وفهمَ كل مَنْ كانَ يراقبُ المشهدَ ما تراهُ
عيناهُ , هاهم ينتظرانُ الموتَ يأتي قريبا متخفيا في هيئة قطار , يناديهما بصوتِ
صافرةِ مزعجةِ يسمعها كل المحيطينَ بمحطةِ الموتِ .. او القطار , اقترب القطار
وتزداد قوة صوت الصافرة ولكنهما لا يتزحزحا , اقل من خمسةِ امتار تفصلهما عنه ..
يحركها افقيا
ورأسيا , يخرجُها مِن فمِه , ثم يتمضمضُ , يضع بعض الماء بيده ثم يقذفُهُ على وجهِه
وكأنه يخبطُه بالماء ليفيق , يفتحُ الثلاجةَ ويُخرِج بعض الطعامَ ثم يضعه على
الطاولة , يجلس ليأكل .. كأنه يتذكر شيء ما , يمسكَ بهاتفِه المحمولِ باحثا عن شيء
ما , يضعُ الهاتفَ علي أذنِه .. " مرحبا ياصديق , لا داعِ للترحيب يا هذا ,
اريد انْ اراكَ بعد ساعةِ , انه الموعد الذي يتلاقى فيه القطاران بالمحطة المجاورة
لمنزلي , احتاجُ لكسرِ بعض الحواجزَ , واعتقد انك كذا , لَنْ انتظرَ لاسمعَ رأيُكَ
, ستأتي الآن , ودَاعًا .. "


0 التعليقات