ماليخوليا 6








نَظرَ لها بعَينَين بائستين تَحمِلا ذِكرياتَ  الماضي وهمُ المستقبلِ , وقال :
" سَنفترِقَ , هذه الدُنيا مَديونةِ لِي , اخذَتْ مِنِّي كُل شَيءٍ , ولكِنها مؤخَرا اعطتني انتِ , ولكنَ انتِ اكثرُ مِنْ كُلِ شيءٍ , لذا انتِظاري فُقدانُ شيءَ مَا هو مَنطِقِي وليسَتْ مَاليِخُولِيا وَهْمِيَة , ولا يُوجَد شيءُ يمكِنْ انْ افقدَهُ بَعد .. سواكِ "
بنبرةِ هادئةِ تليقُ بنعومةِ صوتِهَا , ممزوجةُ ببعضِ البؤسِ قالتْ :
- لا أعلمْ لما دائِما تَقولُ هذا , اتودُ مُفارقَتي فتمهدَ لِهَذا مِنْ الآنِ ؟ ولكِنْ كيفَ ؟!
رَدّ مُنْكِرا :
" لا , بَلْ أريدُكِ بِشدَةِ , أريدُكِ كَما يريدُ الجنةَ كافِرٌ وجدَ بَعدَ الحياةِ حياةً أخرى , ولكنْ قَدْ فَاتَ الآوانِ , ولَمْ يَعُدْ هناكَ وقتُ للندمِ , فَقطْ عليهِ انْ يستسلمَ ويستكينَ لقدرِه المحتومَ بالعذابِ "
ظلتْ تَنظُرُ لهُ تبادلُهُ نظراتِه الحارةِ المليئةِ بمشاعرٍ تَحمِلُها النَسَماتِ لتَستَنشِقِ هَواء العشقِ وتداعبَ وجهُها الملائكي , ثم اضاف :
" حسناً , لقَد وقَعنْا في العِشقِ وانتهى الأمرَ , لنَعيشَ حتى يأتي مَوعدُ الفراقِ , لا اقصدْ ان اتسببَ لكِ بجراحٍ وانتِ معي ولكنْ انا احُاوِلُ انْ احميَكِ , انتِ بريئةُ كالاطفالِ , بل انتِ طفلةٌ حَقا "
- نعم , انا طفلةٌ , واريدُ انْ ابقى كَذلكَ , اريدُكَ انْ تحميني وليسَ انْ تبتعدَ عنِّي , اريدُ انْ اجلسَ معكَ في بيتِ لنَا , تحتضني , ونحنُ نشاهدُ معاً احدَ افلامِ الرسوماتِ المتحركةِ التي اعشقُها
نظرَ لَها باسِماً ومِنْ ورَاء ابتسامتِهِ شعورٍ يجتاحُ قلبُهُ لَمْ يشعرْ به قبلها , بصوتِ فكاهي قال :
" الرُسوماتُ المتحركةِ ليستْ للاطفالِ , بل انها تُوحِي باشياءِ كثيرةِ , تفيدُ الفلاسفةَ امثالي "
- وبماذا تُوحي لكَ يافيلسوف ؟
قالتها ساخرةً تضحكُ عَيناهَا قَبلُ ثَغرِها ..
" اشياءُ كثيرةُ , مثلا عِنْدَما تُشَاهِدينَ احدَ هَذِه الافلامُ , وترينَهُم يطيرون احيانا بدون انْ يَشُعروا , وفجأةِ لو نظروا إِلى الأرضِ لا يجدُونَها , يُدرِكون انهم سَيسقُطوا ؛ فيسقُطُوا , لِذا اريدُكِ انْ تحبيني , ولكنْ بعيداً عِن الوهمِ , فافرَحِي عِنْدَما احتضنُكِ ولكنْ لا تطيري مِن الفرحةِ , يوما مَا سَأرحَلَ , فَعِندما تنظرينَ لأسفلِ تجدينَ انكِ مازلتِ عَلى الأرضِ , ولستِ معلقةٍ في الهَواءِ , فلَا تَسقُطِي "
- ليسّ الوقتُ المناسبَ لحديثِكَ هذا , هيا لندخل
دخلا السينما ليُشاهِدَانْ احدَ الافلامِ الكارتونيةِ التي اختارتها , اجلسهُما المَسؤول عَنْ ذلِك , بَدَأ الفِيلمُ ولمْ يدرْ رأسُه للشاشةِ ابَدا , ظلَ يراقبُها بعنايةٍ , يتفحصُ مَلامحَ وجهَها , كما لو انهُ يريدُ انْ يحفظَها عَن ظهرِ قلب , يقعُ بعيناهِ على خُصلاتِ شَعرِها الكثيفةِ والناعمةِ احيانا , واحيانا اخرى يظلُ يراقبُ عينَاها لفتراتٍ طويلةٍ , ينظرُ وكأنهُ يشاهِدُ فيلمٌ لا ينتهي , كما لو انهُ يرى الكونُ باكملِهِ بتلكَ الدائرةَ السوداءَ الصغيرةَ , ولكن ما ادراكَ ما هذه الدائرةُ الصغيرةِ , ففيها انطوى الكونَ كلهِ , مهما كان حجمُكَ , فالمكانَ الذي تحكمُكَ قوانينُكَ ان تبقى فيه يمثِلُ لكَ الكونِ , وسُجنَ هو بعينيها , فظلَ يتأمَلَ عظمَةِ الخالِقِ الذي خَلَقَ وزيَنَ الكونَ الصغيرَ واللامتناهي الذي هو فيه , لم تُنزلْ عَيناها مِن على شاشةِ السينما , ومع ذلك ظلت تنظرُ لهُ نظراتٍ تحمُلَ نفسَ المشاعر , اغلقت بصيرة عيناها وتركت طاقتها كلها تذهب لقلبها , فتراه به , تراه اجمل ما في العالم , مستسلمة للحالة التي بها يقاطعها هو :
" لماذا مازلت معي حتي الآن ؟ ما اقوله لكي يكفي اي واحدة لتتركني بعد ان تكلمني وتسبني في احد المرات "
- لانني اعلم انك تحبني اكثر مما يبدو عليك
" نعم , ولكني سأرحل , تأكدي من ذلك , سيتأخر هذا قليلا , عندما تصلين لذروة مشاعرك تجاهي , حينها سأرحل "
قالت وهي تنظر له باستهجان بعد ان ادارت رأسها نحوه :
- لتجعلني اتألم الباقي من حياتي ؟
" لا , ان كل شيء في هذا الكوكب اللعين يسير في دائرة , وكل شيء في دائرته له نقطة بداية , وتكون هي نقطة النهاية ايضاً , عندما تصلين لاقصى درجات حبك لي سيكون ما بقي الا ايام معدودة وتتحول هذه المشاعر وتتغير تماماً , وستحبين شخصاً اخر وسيتركك او تتركينه وتظلين هكذا تتألمي هنا وهناك , ولكن اذا تركتك قبل ان تتغير مشاعرك تجاهي , عندما تكوني وصلت لمرحلة انك تقسمين انه لن يفرقنا اي شيء في الدنيا  - وهذا ماتريدينه ولكني اعلم انه سيتغير بعدها بقليل - عندها ان تركتك دائرة الحب في دوائر حياتك ستتوقف عند نقطة البداية والتي هي النهاية , هل فكرت يوما عندما يترك احد العشاق حبيبته او هي تفعل هذا يظل من تُرِك على هذه المشاعر ولا ينساها؟ لانه يهجرها قبل ان تصل الي نقطة بداية دائرة حبها , فتكون نقطة النهاية ليست هي نقطة البداية , فسيأتي احد بعده , فستكمل هذه الدائرة والتي بقي القليل حتي تعود الي بدايتها , وستظل تحبهما هما الاثنان , تحب هذا وتتذكر هذا , وعندما تصل الي نقطة البداية ستنسي حبهما وتمحيهما من حياتها , هذا دائماً حال الحبيب المتروك في منتصف دائرة حبه "
التعليقات
0 التعليقات

0 تعليقات

 
ادارة: مصطفي الملواني